كانت قبيل العصر مركبة … تجري بمن فيها من السّفر
ما بين منخفض و مرتفع … عال ، و بين السّهل و الوعر
و تخطّ بالعجلات سائرة … في الأرض إسطارا و لا تدري
كتبت بلا حبر و عزّ على … الأقلام حرف دون ما حبر
سيّارة في الأرض ما قتئت … كالطّير من وكر إلى وكر
تأبى و تأنف أن يلمّ بها … تعب ، و أن تشكو سوى الزّجر
حملت من الركاب كلّ فتى … حسن الرّواء و كلّ ذي قدر
يتحدّثون فذاك عن أمل … آن ، و ذا عن سالف العمر
يتحدّثون و تلك سائرة … بالقوم لا تلوي على أمر
فكأنّما ضربت لها أجلا … أن تلتقي و الشمس في خدر
حتى إذا صارت بداحية … ممدودة أطرافها صفر
سقطت من العجلات واحدة … فتحطّمت إربا على الصّخر
فتشاءم الركّاب و اضطربوا … مما ألمّ بهم من الضّر
و تفرّقوا بعد انتظامهم … بددا و كم نظم إلى نثر
و الشّمس قد سالت أشعّتها … تكسو أديم الأرض بالتّبر
و الأفق محمرّ كأنّ به … حنقا على الأيّام و الدّهر
قد كان بين الجمع ناهدة … الثديين ذات ملاحة تغري
تبكي بكاء القانطين و ما … أسخى دموع الغادة البكر
و قفت و شمس الأفق غاربة … تذري على كالورد ، كالقطر
شمسان لولا أنّ بينهما … صلة لما بكتا من الهجر
و تدير عينيها على جزع … كالظّبي ملتفتا من الذّعر
و إذا فتى كالفجر طلعته … بل ربما أربى على الفجر
وافى إليها قائلا عجبا … ممّ البكاء شقيقة البدر ؟
قالت أخاف اللّيل يدهمني … ما أوحش اظلماء في القفر
و أشدّ ما أخشاه سفك دمي … بيد الأثيم اللّصّ ذي الغدر
” هنري ” اللّعين و ما الفتى هنري … إلاّ لبن أمّ الموت لو تدري
رصد السبيل فما تمرّ به … قدم و لا النسمات إذ تسري
وا شقوتي إنّ الطريق إلى … سكني على مستحسن النكر
إنّي لأعلم إنّما قدمي … تسعى حثيثا بي ” القبر
قال الفتى هيهات خوفك لن … يجديك شيئا ربّة الطهر
فتشجهي و عليّ فاتّكلي … فأنا الذي يحميك من هنري
قالت أخاف من الخؤون على … هذا الشباب الناعم النّضر
فأجابها لا تجزعي و ثقي … أنّي على ثقة من النّصر
عادت كأن لم يعرها خلل … تخد القفار سفينة البرّ
و اللّيل معتكر يجيش كما … جاشت هموم النّفس في الصدر
فكأنّه الآمال واسعة … و البحر في مدّ و في جزر
و كأنّ أنجمه و قد سقطت … دمع الدّلال و ناصع الدّر
و البدر أسفر رغم شامخة … قد حاولت تطويه كالسّر
ألقى أشعّته فكان لها … لون اللّجين و لؤلؤ الثّغر
فكأنّه الحسناء طالعة … من خدرها أو دمية القصر
و كأنّما جنح الظّلام جنى … ذنبا فجاء البدر كالغدر
و ضحت مسالك للمطيّة قد … كانت شبيه غوامض البحر
فغدت تحاكي السّهم منطلقا … في جريها و الطيف إذ يسري
و القوم في لهو و في طرب … يتناشدون أطايب الشّعر
حتى إذا صارت بمنعرج … و قفت كمنتبه من السّكر
فترجّلت ” ليزا ” و صاحبها … و مشت و أعقبها على الأثر
و استأنفت تلك المطيّة ما … قد كان من كرّ و من فر
مشت المليحة و هي مطرقة … ما ثمّ من تيه و لا كبر
أنّى تتيه و قد أناخ بها … همّ و بعض الهمّ كالوقر
لم تحتسي خمرا و تحسبها … ممّا بها نشوى من الخمر
في غابة تحكي ذوائبها … في لونها و اللّف و النّشر
ضاقت ذوائبها فما انفجرت … إلاّ لسير الذّئب و النمر
كاللّيلة الليلاء ساجية … و لربّ ليل ساطع غرّ
قد حاول القمر المنير بها … ما حاول الإيمان في الكفر
تحنو على ظبي و قسورة … أرأيتم سرين في صدر ؟
صقر وورقاء ، و من عجب … أن تحتمي الورقاء بالصّقر
هذا و أعجب أنّها سلمت … منه على ما فيه من غدر
ظلّت تسير و ظلّ يتبعها … ما نمّ من إثم و لا وزر
طال الطريق و طال سيرها … لكنّ عمر اللّيل في قصر
حتّى إذا سفر الصّباح و قد … رفع الظّلام و كان كالسّتر
و الغاب أوشك أن يبوح بها … و به ، بلا حذر ، إلى النّهر
نظرت إليه بمقلة طفحت … سحرا ووجه فاض بالبشر
قالت له لم يبق من خطر … جمّ نحاذره و لا نذر
أنظر فإنّ الصّبح أوشك أن … يمحو ضياء الأنجم الزّهر
و أراه دبّ إلى الظّلام فهل … هذا دبيب الشّيب في الشّعر
و أسمع ، فأصوات الطيور علت … بين النّقا و الضال و السّدر ؟
قال الفتى أو كنت في خطر ؟ … قالت له عجبا ألم تدر ؟
فأجابها ما كان في خطر … من كان صاحبه الفتى هنري
فتقهقرت فزعا فقال لها … لا تهلعي واصغي إلى حرّ
ما كنت بالشّرير قطّ و لا … الرّجل الذي يرتاح للشّرّ
لكنّني دهر يجوز على … دهر يجوز على بني الدّهر
بل إنّني خطر على فئة … منها على خطر ذوي الضّر
قتلوا أبي ظلما فقتلهم … عدل و حسبي العدل أن يجري
لا سلم ما بيني و بينهم … لا سلم بين الهرّ و الفأر
سيرون في الموت منتقما … لا شافع في الأخذ بالثّأر
تالله ما أنساك يا أبتي … أبدا و لا أغضي على وتر
قالت لقد هيّجت لي شجنا … فإليك ما قد كان أمري
بعث المليك إلى أبي فمضى … و أخي معا توّا إلى القصر
فإذا أبي في القبر مرتهن … و إذا أخي في ربقة الأسر
يا ساعديّ بترتما ويد … الدهر الخؤون أحق بالبتر
نابي و ظفري بتّ بعدكما … وحدي بلا ناب و لا ظفر
و يلاه من جور الزّمان بنا … و الويل منه لكلّ مغترّ
و كأنّنا و الموت يرتع في … أرواحنا مرعى و مستمري
لما انتهت و إذا به دهش … حيران كالمأخوذ بالسّحر
شاء الكلام فناله خرس … كلّ البلاغة تحت ذا الحصر
و كذلك الغيداء أذهلها … ميل إلى هذا الفتى الغرّ
قالت أخي و الله … و اقتربت
و إذا به ألقى عباءته … برح الخفاء بها عن الجهر
صاحت أخي فيكتور وا طربي … روحي ، شقيقي ، مهجتي ، ذخري
و تعانقا ، فبكى فرحا … إنّ البخار نتيجة الحرّ
و تساقطت في الخدّ أدمعها … كالقطر فوق نواضر الزّهر
قل للألي يشكون دهرهم … لا بدّ من حلو و من مرّ
صبرا إذا جلل أصابكم … فالعسر آخره إلى اليسر