ودَّعتُ شرخَ صِبايَ قبلَ رحيلِهِ … ونَصَلتُ منه ولاتَ حَينَ نُصولِهِ
وَنفَضتُ كفّيَ من شبابٍ مُخلِفٍ … إيراقهُ للعين مِثلُ ذبوله
وأرى الصِّبا عَجِلاً يَمُرُّ وإنني … ساعدتُ عاجلَهُ على تعجيله
سَعُدَ الفتى متقّبلاً مِن دهره … مقسومَه بقبيحهِ وجميله
وأظُنّني قد كنتُ أرْوَحَ خاطراً … بالخطبِ لو لم أُعنَ في تأويله
لكن شُغِفْتُ بأن أُقابلَ بينه … أبداً وبين خِلافه ومثيله
وَشَغَلتُ بالي والمصيبَةُ أنني … أجني فراغَ العُمرِ مِن مشغوله
يأسٌ تجاوزَ حَدَّه حتى لقد … أمسيتُ أخشى الشرَّ قبلَ حُلوله
وبَلُدْتُ حتى لا ألَذُّ بمُفْرحٍ … حَّذَرَ انتكاستهِ وخوفَ عُدوله
إيهٍ أحبَّايَ الذينَ ترعرعوا … ما بين أوضاحِ الصِّبا وحُجوله
إني وإنْ غَلبَ السلُّو صَبابتي … واعتضتُ عن نجم الهوى بأُفوله
لتَشوقُني ذكراكُمُ ويهُزُّني … طَربٌ إلى قالِ الشباب وقِيِله
أحبابَنا بين الفُرات تمتَّعوا … بالعيش بين مياهه ونخيله
وتذكَّروا كَلفَ امرئٍ متشوّقٍ … منزوفِ صبرٍ بالفراق ، قتيله
حرّانَ ، مدفونِ الميولِ ، وعنَدكم … إطفاءُ غُلَّتِه وبعثُ ميوله
حَييْتُ ” سامَرّا ” تحيَّةَ مُعجَبٍ … بروُاءِ مُتَّسِعِ الفِناء ظَليله
بَلدٌ تساوَى الحسنُ فيه ، فليلُهُ … كنهاره ، وضَّحاؤه كأصيله
ساجي الرياحِ كأنما حلَفَ الصَّبا … أن لا يمُرَّ عليه غيرُ عليله
طَلْقُ الضواحي كاد يُربي مُقفِرٌ … منه بنُزهتهِ على مأهوله
وكفاكَ من بلدٍ جَمالاً أنَّه … حَدِبٌ على إنعاش قلبِ نزيله
عَجَبي بزَهْوِ صُخوره وجباله … عَجَبي بمنحَدرَاته وسُهوله
بالماءِ منساباً على حَصبائه … بالشَّمسِ طالعةً وراء تُلوله
بالشاطئِ الأدنى وبَسطةِ رملِهِ … بالشاطئِ الأعلى وبَردِ مَقيله
بجماله ، والبدرُ يَملؤه سناً … بجلالهِ رهنَ الدُّجى وسُدوله
بالنهر فيَّاضَ الجوانبِ يزدهي … بالمُطْربَينِ : خريرهِ وصليله
ذي جانبْينِ ، فجانب مُتطامِنٌ … يقسو النسيمُ عليه في تقبيله
بإزاءِ آخَرَ جائشٍ متلاطمٍ … يَرغو إذا ما انصبَّ نحوَ مَسيله
فصلتهما ” الجُزُرُ ” اللِّطافُ نواتئاً … كلٌّ تحفَّزَ ماثلاً لعديله
وجرتْ على الماءِ القوارِبُ عُورضت … بالجري فهي كراسفٍ بكبوله
فإذا التَوت لمسيلهِ فكأنَّما … تبغي الوصولَ إليه قبلَ وصوله
وإذا نظرتَ رأيتَ ثَمَّةَ قارَباً … تَمتازُه بالضوء مِن قِنديله
أو صوتِ مِجدافٍ يُبينُ بوقعه … فوقَ الحصى عن شجوه وعويله
سادَ السكونُ على العوالم كُلَّها … وتَجلبب الوادي رِداءَ خموله
وتنبَّهتْ بين الصخورِ حَمامةٌ … تُصغي لصوت مُطارِحٍ بهديله
وأشاعَ شجواً في الضفاف ورقَّةً … إيقاظُ نُوتيًّ بها لزميله
ولقد رأيتُ فُويقَ دجلةَ مَنظراً … الَشِعرُ لا يقوى على تحليله
شَفَقاً على الماءِ استفاضَ شُعاعُه … ذَهَباً على شُطآنه وحُقوله
حتى إذا حكَم المغيبُ بدا له … شفقٌ يُحيطُ البدرَ حين مُثوله
فتحالفَ الشفقانِ ، هذا فائرٌ … صُعُداً وهذا ذائبٌ بنزوله
ثُمَّ استوى فِضّيُّ نُورٍ عابثٍ … بالمائِجَيْنِ : مِياههِ ورموله
فاذا الشواطئُ والمساحبُ والرُّبى … والشطُّ والوادي وكلُّ فُضوله
قمراءُ ، راقصةُ الأشعَّةِ ، جُلّلت … بخفيِّ سِرٍّ رائعٍ مجهوله
والجوُّ أفرطَ في الصفاءِ فلو جرى … نَفَسٌ عليه لَبانَ في مصقوله
هذي الحياةُ لِمِثلها يحنو الفتى … حِرصاً وإشفاقاً على مأموله
وإذا أسِفتُ لمؤسِفٍ فلأنَّه … خِصْبُ الثَّرى يُشجيكَ فرطُ مُحوله
قد كانَ في خَفْضِ النَّعيم فبالغتْ … كفُّ الليالي السودِ في تحويله
بَدَتِ القصورُ الغامراتُ حزينةً … من كلّ منهوبِ الفِناءِ ذليله
كالجيشِ مهزومَ الكتائبِ فلَّه … ظَفَرٌ ورَقَّ عدوَه لفلوله
” العاشقُ ” المهجورُ قُوّضَ رُكنُهُ … كالعاشق الآسي لفقدِ خليله
” والجعفريُّ ” ولم يقصِّررسمُهُ … الباقي برغُم الدَّهر عن تمثيله
بادي الشحوبِ تَكادُ تقرأ لوعةً … لنعيمه المسلوبِ فوقَ طلوله
وكأنَّما هو لم يجِدْ عن ” جعفرٍ ” … بدلآ يُسَرُّ به ولاً عن جِيله
فُضَّتْ مَجالسُهُ به وخلَوْنَ مِن … شعر ” الوليدِ بها ومن ترتيله
إن الفحُولَ السالفينَ تعهَّدوا … عصرَ القريضِ وأُعجبوا بفحوله
يتفاخرونَ بشاعرٍ فكأنَّما … تحصيلُ معنى الحُكْمِ في تحصيله
فجزَوْهُمُ حُلوَ الكلامِ وطرَّزوا … إكليلَ ربِّ المُلْك مِن إكليله
كانوا إذا راموا السكوتَ تذكَّروا … فَضلَ المليكِ الجمَّ في تنويله
من صائنٍ للنفس غيرِ مُذيلها … شُحُاً ومُعطي المالِ غيرِ مُديله
وإذا شَدَوا فكما تغنَّى طائرٌ … أثرُ النعيمِ يَبينُ في تهليله
ولقد شجتني عَبرةٌ رَقراقةٌ … حَيرانةٌ في العين عند دُخوله
إني سألتُ الدهرَ عن تخطيطهِ … عن سَطحه، عن عَرضه ، عن طُوله
فأجابني : هذي الخريبةُ صدرُه … والبلقعُ الخالي مَجرُّ ذيوله
وَسَلِ الرياحَ السافياتِ فانَّها … أدرى بكلِّ فروعه وأصوله
وتعلَّمَنْ أنَّ الزمانَ إذا انتحى … شُهُبَ السَّما كانت مداسَ خُيوله
مدَّت بنو العبَّاس كفَّ مُطاوِلٍ … فمشى الزمانُ لهم بكفِّ مَغوله
واجتاحَ صادقَ مُلكهِمْ لما طَغوا … بدعيِّ مُلكٍ كاذبٍ مَنحوله
وكذا السياسةُ في التقاضي عندَه … تسليمُ فاضلهِ الى مفضوله
خُلِّدْتِ سامراءُ ، لم أوصِلْكِ مِن … فَضْلٍ حَشَدتِ عليَّ غيرَ قليله
يا فرحةَ القلبِ الذي لم تتركي … أثراً لِلاعجِ همّه ودخيله
وافاكِ مُلتهِبَ الغليلِ وراح عن … مغناكِ يَحمَدُ منكِ بردَ غليله
أنعشتِهِ ونَفَيْتِ عنه هواجساً … ضايقْنَه ، وأثرتِ من تخييله
وصدقته أملاً رآكِ لِمثله … أهلاً فكنتِ ، وزدتِ في تأميله
هذا الجميلُ الغضُّ سوف يردُّه … شِعري إليكِ مُضاعفاً بجميله
ولقد غَلوتُ فكمْ يقلبي خاطرٌ … عَجزتْ مَعاني الشعر عن تمثيله
وَلطيفِ معنىً فيك ضاقَ بليدُها … بذكِّيهِ ، ودقيقُها بجَليله
ولعلَّ منقولَ الكلامِ محوَّلٌ … في عالَمٍ آتٍ إلى مَعقوله
فهُناكَ يتَّسِع التخلّصُ لامرِئٍ … من مُجمَل المعنى إلى تفصيله