لي صاحِبٌ قد لا مَني، وزادا، … في تَركِيَ الصَّبوحَ ثمّ عَادا
وقال: لا تَشرَبُ بالنّهارِ، … وفي ضِياءِ الفَجرِ والأسحارِ
إذا وشى بالليلِ صبحٌ ، فافتضحْ ، … وذكّرَ الطّائِرَ شَجوٌ، فصَدَحْ
و النجمُ في حوضِ الغروبِ واردُ ، … و الفجرُ في إثرِ الظلامِ طاردُ
ونَفَّضَ اللّيلُ على الوَرد النّدى ، … وحرّكتْ أغصانَهُ رِيحُ الصَّبا
و قد بدتْ فوقَ الهلالِ كرتهُ ، … كهامة ِ الأسودِ شابَتْ لِحيتُه
فنَوّرَ الدّارَ بِبعضِ نورِهِ، … و الليلُ قد أزيحَ من ستورهِ
وقَدّتِ المَجَرّة ُ الظّلامَا، … تحسبها في ليلها ، إذا ما
تنفسَ الصبحُ ، ولما يشتعل ، … بينَ النجومِ مثلَ فرقِ مكتهلِ
وقال: شُرْبُ الليلِ قد آذانَا، … و طمسَ العقولَ والأذهانا
وشكتِ الجنُّ إلى إبليسِ ، … لأنهمْ في أضيقِ الحبوشِ
أما تَرَى البُستانَ كيفَ نَوّرَا، … و نشرَ المنثورُ برداً أصفرا
و ضحك الوردُ على الشقائقِ ، … و اعتنقَ القطرَ اعتناقَ الوامقِ
في روضة ٍ كَحُلّة ِ العَروسِ، … و خدمٍ كهامة ِ الطاووسِ
و يا سمينٍ في ذرى الأغصانِ ، … مُنتظِماً كقِطَعِ العقيانِ
والسّروُ مثلُ قِطَعِ الزّبَرْجدِ، … قد استمَدَّ الماءَ من تُرْبٍ نَدي
وفَرشَ الخشخاشُ جَيباً وفَتق، … كأنه مصاحفٌ بيضُ الورق
حتى إذا ما انتشَرَتْ أوْرَاقُهُ، … و كادَ أن يرى إلينا ساقه
صارَ كأقداحٍ منَ البلورِ ، … كأنما تجسمتْ من نورِ
وبعضُه عُرْيانُ من أثوابهِ، … قد أخجلَ الأعينَ من أصحابه
تبصرهُ بعدَ انتشارِ الوردِ ، … مثلَ الدبابيسِ بأيدي الجندِ
و السوسنُ الآزرُ منشورُ الحلل ، … كقطنٍ قدْ مسهُ بعضُ البلل
نورَ في حاشيتيْ بستانهُ ، … و دخلَ البستانُ في ضمانه
و قدْ بدتْ فيهِ ثمارُ الكبرِ ، … كأنّها حمائمٌ منْ عَنبَرِ
وحلّقَ البهارُ فوْقَ الآسِ، … جمجمة ٌ كهامة ِ الشماسِ
حبالُ نَسيجٍ مثلُ شَيبِ النَّصفِ، … وجوهرٌ من زَهَرٍ مُخْتَلِفِ
وجلّنارٌ مثلُ جَمرِ الخَدَّ، … او مثلُ أعرافِ ديوكِ الهِندِ
والأقْحُوانُ كالثّنايا الغُرّ، … قد صقلت نوارها بالقطرِ
قُلْ لي: أهذا حسنٌ بالليلِ، … وَيليَ ممّا تشتهي وعَولي
وأكثرَ الفُصُولَ والأوْصَافا، … فقلتُ: قد جنّبْتُكَ الخِلافا
بتْ عندنا ، حتى إذا الصبحُ سفرْ ، … كأنّهُ جدولُ ماءٍ مُنفجِرْ
قمنا إلى زادٍ لنا معدَّ ، … و قهوة ٍ صراعة ٍ للجلدِ
كأنّما حَبابُها المنثورُ، … كواكبٌ في فَلَكٍ تدُورُ
ولا تَقُلْ لقدْ ألِفتُ مَنزِلي، … فتُفسِدَ القولَ بعُذرٍ مُشكِلِ
فقال: هذا أوّلُ الجُنونِ، … متى ثوى الضبُّ بوادي النونِ
دعوتُكمْ إلى الصَّبوحِ ثمّ لا … أكونُ فيه، إذ أجبتم ، أولا
لي حاجة ٌ لا بدّ من قضائها ، … فتستريحُ النفسُ من عنائها
ثمّ أجي والصبحَ في عنانِ ، … مِن قبلِ أن يُبدَأ بالآذانِ
ثمّ مضى يعدُ بالبكورِ ، … وهَزّ رأسَ فَرِحٍ مَسْرُورِ
فقمتُ منه خائفاً مرتاعا ، … وقلتُ: ناموا، ويحَكم، سِراعا
ونحنُ نُصْغي السمعَ نحوَ البابِ، … فلم نَجِدْ حِسّاً مِن الكَذّابِ
حتى تَبَدّتْ حُمرة ُ الصّباحِ، … وَأوجعَ النّدمانَ سوطُ الرّاحِ
وقامتِ الشّمسُ على الرّؤوسِ، … و ملكَ السكرُ على النفوسِ
جاءَ بوَجْهٍ بارِدِ التّبَسُّمِ، … مفتضحٍ لما جنى مدممِ
يَعْثُرُ وَسَطَ الدّارِ منْ حيَائِه، … و يكشفُ الأهدابَ منْ ورائه
تعَطعَطَ القَوْمُ به حتى بَدَر، … و افتتحَ القولَ بعي وحصر
لتأخذَ العينُ من الرقادِ … حظاً إلى تعلية ِ المنادي
فمسحتْ جنوبنا المضاجعا ، … و لم أكنْ للنومِ قبلُ طائعا
ثُمّة َ قُمنا والظلامُ مُطرِقُ، … والطّيرُ في أوكارِها لا تَنطِقُ
وقد تَبَدّى النّجمُ في سوَادِه، … كَحُلّة ِ الرّاهبِ في حِدادِه
وقال: يا قومُ اسمعوا كلامي، … لا تُسرِعوا ظُلماً إلى مَلامي
فجاءَنا بقِصّة ٍ كذّابَه، … لمْ يفتحِ القلبُ لها أبوابه
فعذرَ العنينَ يومَ السابعِ ، … إلى عروسٍ ذاتِ حظً ضائعِ
قالوا: اشرَبوا فقلتُ: قد شَرِبنا، … أتيتنا ، ونحنُ قد سكرنا
فلمْ يزل من شأنهِ منفردا ، … يرفعُ بالكأسِ إلى فيهِ يدا
والقوْمُ من مُستَيقِظٍ نَشوَانِ، … أو غرقٍ في نومهِ وسنانِ
كأنهُ آخرُ خيلِ الحلبه ، … له من السواسِ ألفُ ضربه
مجتهداً كأنهُ قد أفلحنا ، … يطلعُ في آثارها مفتحا
فاسمَع، فإنيّ للصَّبوحِ عائَبُ، … عِنديَ من أخبارِهِ العَجائِبُ
إذا أردتَ الشُّرْبَ عند الفَجْرِ، … و النجمُ في لجة ِ ليلٍ يسري
و كانَ بردٌ بالنسيمِ يرتعدْ ، … و ريقهُ على الثنايا قد جمدْ
وللغُلامِ ضَجرَة ٌ وهَمهَمه، … وشَتمة ٌ في صَدرِه مُجمجمه
يمشي بلا رجلٍ من النعاسِ ، … ويدفُقُ الكأسَ على الجُلاّسِ
و يلعنُ المولى ، إذا دعاهُ ، … ووجهُهُ إن جاءَ في قَفاهُ
و غن أحسّ من نديمٍ صوتا ، … قال مجيباً طعنة ٍ وموتا
و إن يكنْ للقومِ ساقٍ يعشقُ ، … فجفنُهُ بجفنِهِ مُدَبِّقُ
ورَأسُهُ كمِثلِ فَرقٍ قد مُطِر، … و صدغه كالصولحانِ المنكسر
أعجَلَ مِن مِسواكه وزينتِه، … و هيئة ٍ تنظرُ حسنَ صورته
… محمولة ٍ في الثوبِ والأعطافِ
كأنما عضّ على دماغِ ، … متهمُ الأنفاسِ والأرفاغ
فإن طردتَ الكأسَ بالسنورِ ، … وجِئتَ بالكانونِ والسَّمّورِ
فأيُّ فضلٍ للصبوحِ يعرفُ ، … على الغَبوقِ، والظلامُ مُسدِفُ
يَحُسُّ من رِياحهِ الشمائلِ، … صوارماً ترسبُ في المفاصلِ
وقد نَسيتُ شرَرَ الكانُونُ، … كأنهُ نثارُ ياسمينِ
يرمي بهِ الجمرُ إلى الأحداقِ ، … فإنْ ونى قرطسَ في الآماقِ
و تركَ النياطَ بعدَ الخمدِ ، … ذا نقطٍ سودٍ كجلد الفهدِ
وقطّعَ المَجلِسَ في اكتئابِ، … و ذكرِ حرقِ النارِ للثيابِ
ولم يَزَلْ للقوْمِ شُغلاً شاغِلا، … و اصبحتْ جبابهمْ مناخلا
حتى إذا ما ارتفعتْ شمسُ الضّحى … قيل : فلانٌ وفلانٌ قد أتى
و ربما كانَ ثقيلاً يحتشم ، … فطَوّل الكَلاَمِ حِيناً وجشَم
… و زالَ عنا عيشنا اللذيذا
ولستُ في طول النّهارِ آمِنا، … ما حادِثٍ لم يَكُ قبلاً كائنا
أو خبرٍ يكرهُ ، أو كتابِ … يَقطَعُ طيبَ اللهِو والشّرابِ
فاسمَعْ ألى مَثالِبِ الصَّبوحِ، … في الصيفِ قبلَ الطائرِ الصدوحِ
حينَ حلا النومُ وطابَ المَضْجعُ، … وانحَسَرَ اللّيلُ، ولَذَّ المَهجَعُ
وانهَزَمَ البَقُّ وكنّ رُتّعاً، … عَلى الدّماءِ وارداتٍ شُرَّعا
من بعد ما قد أكلوا الأجسادا، … وطيّرُوا عنِ الوَرَى الرّقادا
فقربِ الزادَ إلى نيامٍ ، … ألسنهمْ ثقيلة ُ الكلامِ
من بعدِ أن دبّ عليهِ النملُ ، … وَحَيّة ٌ تَقذِفُ سُمّاً، صِلُّ
و عقربٌ ممدودة ٌ قتالهُ ، … وجُعَلٌ، وفارَة ٌ بَوّالَه
و للمغني عارضٌ في حلقهِ ، … ونفسُه قد قدحَت في حِذقِهِ
و إن أردتَ الشربَ عند الفجرِ ، … والصّبحُ قد سَلّ سيوفَ الحرّ
فساعة ٌ ، ثمّ تجيكَ الدامغه ، … بنارها ، فلا يسوغُ شائغه
ويَسخُنُ الشّرابُ والمِزاجُ، … ويكثُرُ الخِلافُ والضُّجاجُ
مِن مَعشرٍ قد جَرَعوا حَمِيماً، … و طعموا من زادهم سموما
و غيمت أنفاسهم أقداخهم ، … و عذبت أقداحهم أرواحهم
وأولِعوا بالحَكّ والتّفرّكِ، … و عصبُ الآباطِ مثلُ المرتكِ
وصارَ رَيحانُهُم كالقَتِّ، … فكلُّهم لكلّهم ذو مَقْتِ
وبَعضُهم يمشي بِلا رِجلَينِ، … وأذُنٍ كحُقّة ِ الدَّباقِ
وبعضُهُم مُحَمَرّة ٌ عيناهُ، … من السمومِ محرقٌ خداهُ
وبعضُهم عندَ ارْتفاعِ الشْمسِ … يحسّ جوعاً مؤلماً للنّفسِ
فإن أسرّ ما بِهِ تَهوُّسا، … ولم يُطِقْ من ضُعفِهِ تَنَفُّسا
و طافَ في أصداغهِ الصداعُ ، … ولمْ يكُنْ بمِثْلِهِ انْتِفاعُ
وكَثُرتْ حِدّتُهُ وضَجَرُه، … وصارَ كالحُمّى يطيرُ شَرَرُه
وهمّ بالعَرْبَدة ِ الوَحْشِيّه، … و صرفَ الكاساتِ والتحيه
وظهَرَتْ مَشَقّة ٌ في حَلقِه، … و ماتَ كلُّ صاحبٍ من فرقه
و إن دعا الشقيُّ بالطعامِ ، … خَيّطَ جَفنَيه على المَنامِ
وكلّما جاءت صلاة ٌ واجبه، … فسا عليها ، فتولت هاربه
فكَدّرَ العيشَ بيَوْمٍ أبْلَقِ، … أقطاره بلهوهِ لم تلتقِ
فمن أدامَ للشقاءِ هذا … من فعلهِ، والتذّه التِذاذا
لم يلفَ إلاّ دنسَ الأثوابِ ، … مهوساً ، مهوسَ الأصحابِ
فازدادَ سهواً وضنى وسقما ، … و لا تراهُ الدهرَ إلاّ قدما
… و ذا يريدُ مالهُ وحرمتهْ
ذا شاربٍ وظفرٍ طويلِ ، … يُنغّصُ الزّادَ علَى الأكيلِ
و مقلة ٍ مبيضة ِ المآقي ، … و أذنٍ كحقمة ِ الدباقِ
وجسدٍ عليه جِلدٌ من وَسَخ، … كأنه أشربَ نفطاً ، أو لطخ
تخالُ تحتَ ابطِه، إذا عَرِق، … لِحيَة َ قاضٍ قد نَجا مِن الغَرَق
و ريقهُ كمثلِ طوقٍ من أدم ، … وليسَ من ترْكِ السّؤال يحتَشِم
في صدره من واكفٍ وقاطر … كأثرِ الذرقِ على الكنادرِ
هذا كذا وما تركتُ أكثرُ، … فجَرِّبُوا ما قُلتُهُ، وفَكِّرُوا