أَذكُره وَكَيفَ لا أَذكُرُ … لُبنانُ فيهِ المَسكُ وَالعَنبَرُ
هَواؤُهُ الطَيِّبُ روحُ الصِبا … وَماؤُهُ أَكدرهُ كَوثَرُ
أَشجارُهُ ذاهِبَةٌ في الفَضا … يَروعُ مِنها ذلِكَ المَنظَرُ
كَأَنَّها المَرّاد قامَت عَلى … آكامِهِ ساهِرَةً تَخفرُ
نَبعُ الصفا يقطُر مِن صَدرِهِ … وَالرَوضُ سَكرانُ فَلا يَشعُر
كَأَنَّما أَمواهُهُ خَمرَةٌ … مُذ يَستَقيها رَوضُهُ يسكُر
وَزُحلَةٌ شَوقي إِلى زحلَةٍ … كَأَنَّها في حُسنِها جُؤذَرُ
حَوراءُ وَالعشّاقُ ترتادُها … وَكُلُّ مَن يَعشَقها أَحوَرُ
كَم قَد تَبارى الشِعرُ في وَصفِها … وَكُلُّنا في وَصفِها قَصَّرُ
سَماؤُها وَحيٌ وَأَزهارُها … شعرٌ وَبردونيُّها أَسطُرُ
كَم أَنجَبتُ من شاعِرٍ نابِغٍ … إِذا اِنبَرى في مَوقِفٍ يسحرُ
كَأَنَّما هاروتُ في شِعرِهِ … بِالرُغمِ عَن إِخفائِهِ يَظهَرُ
وَالأَرزُ شَدَّ الخُلدُ أَعصابَهُ … فَكُلُّ طودٍ عِندَه يصغُر
جبابِرُ الأَيّامِ في مَجدِها … مَرهونَةٌ لِأَمرِها الأَعصُر
يا أَرزُ لا يُطوى الفُخارُ الَّذي … كانَ سليمانُ لهُ ينشُرُ
فَاِصبِر عَلى الدَهرِ فَما غايَةٌ … ضاعَت لمن كانَ لَها يَصبُر
هَويتُ لبنانَ وَلا أَنثَنى … عَن حُبِّ لبنانَ ولا أُدبُر
لي فيهِ شَطرٌ مِن حَياتي وَلي … مِن مُهجَتي في صَدرِه أَشطُر
لي فيهِ بَدرٌ مُشرِقٌ نَيِّرٌ … لهُ جَمالٌ مشرِقٌ نَيِّرُ
يَبذر نوراً في رِياضِ الهَوى … فَأَنثَني أَجمَعُ ما يبذُرُ
كَم لَيلَةٍ أَحيَيتُها قُربَه … وَالحُبُّ يُعطينا وَلا يخسَرُ
كَأَنَّهُ رتشيلد في عزِّه … كَأَنَّهُ روكفلر الموسرُ
وَاللَيلُ فيهِ قَمرٌ كامِلٌ … كَأَنَّهُ عبدٌ لَنا أَعوَرُ
يا أولِغا مَرَّ الصَفا عابِراً … كلَّ صفاءٍ في الوَرى يعبُرُ
وَفي فُؤادي أَدمُعٌ كُلَّما … فاضَت في آهاتِهِ تعثُرُ
يا جُؤذَراً ما ميّ في كلّ ما … أَنظِمُ إِلّا أَنتَ يا جُؤذُر
أَنتَ الَّذي أَوحَيتَ شِعري فَلا … أَجحدُ ما توحي وَلا أُنكرُ
في عَينِكِ النَجلاءِ سرُّ الهَوى … وَفي لِماكَ العَذبِ ما يُسكرُ
وَفي ثَناياكَ هَوىً طاهِرٌ … وَبَينَ جَنبَيكَ هَوىً أَطهَرُ
سَأَذكرُ المرجةَ في الفَجرِ إِذ … أَبكَرتَ كَالحَسّونِ إِذ يُبكِرُ
مُذ شَرَّفت رِجلاكَ أَعشابها … حَنى بِلُطفٍ ذلِكَ الأَخضَرُ
أَودَعتَ عِندي مُهجَةً لَم تخن … قَلبي عَلى إِكرامِها يَسهَرُ
قَطرتَ لي الودَّ فَهَل في السَما … صَفاوَةٌ مِثل الَّتي تقطُر
لي كلُّ هذا في بِلادي وَلي … في البَيتِ أُختٌ شعرُها أَشقُر
ضَحّاكةٌ كَالزَهرِ في رَوضِهِ … رَقّاصَةٌ غَنّاجَةٌ تَخطرُ
صَغيرَةُ السنّ لَها أَعيُنٌ … زرقٌ وَخدّ أَبيَضُ أَحمَرُ
وَحاجِبٌ كَالسَيفِ إِن حَدَّقت … عَن غَضبٍ يَخافُها عَنتُر
الأَسودُ الحالِكُ في لَونِهِ … إِذا مَشى أَمامَها يَفخَرُ
هرٌّ لَهُ في عَينِها جاذِب … وَفي حَشاها جاذِبٌ آخرُ
إِن وَفَّق الحَظُّ لهُ فارَةً … يُسرِعُ في ساعَتِهِ يخبرُ
كَأَنَّهُ وَهوَ عَلى كَتفِها … إِسكَندَرُ الأَكبَرُ أَو قَيصرُ
أَو غَليمُ الثاني عَلى عَرشِهِ … اللَهُ مِن سَطوَتِهِ أَكبَرُ
أخت وَيا لِلَّهِ مِن جورِها … يأتمرُ الكُلُّ إِذا تَأمرُ
فَرض عَلى البَيت وَما فيه أَن … يَبقى عى مرضاتِها يسهرُ
إِن طلبَت شَيئاً وَلم يُؤتِها … جَميع ما تصدفه يُكسَرُ
الوَيل لِلأَكؤُسِ من شَرِّها … وَيل الكراسيّ إِذا تنفُرُ
وَالبَيت يا لِلَّهِ من ذكره … يُحيطُه بُستانُه الأَخضَرُ
تنظُرُ لِلأَشجارِ فيهِ وَلا … يعجبها إِلا الَّتي تثمرُ
تحبُّني حُبّاً شَديداً بِلا … حصرٍ وحبّ الأُخت لا يُحصَرُ
حُبّاً يُضاهي الأَرضَ طرّاً وَما … قَد حَمَلَت في قعرِها الأَبحرُ
من سمكٍ يسبحُ في مائِها … وَمن شخاتيرٍ بِها تَمخرُ
وَمن رِمالٍ كثُرت حَولَها … فحبّ أختي هو لي أَكثَرُ
كَم مَرَّةٍ أَفرغَت وَقتي لِكَي … أَسمَعَها تَنشدُ ما تذكرُ
فَتسكرُ الآلامُ في مُهجَتي … وَصَوتُ أُختي خَمرَةٌ تُسكِرُ
تَنظُرُ في عَينيّ طوراً وَلا … أُحرِزُ ماذا الدُرُّ وَالجَوهَرُ
وَتارَةً تفرجُ عَن مَبسَمٍ … يَلمعُ فيهِ الدرُّ وَالجَوهَرُ
كَم مَرَّةٍ جاءَت إِلى مَكتَبي … بينا اَنا أَنظُمُ أَو أَنثُر
فَبَعثَرَت أَوراقَهُ وَالهَوى … في مُهجَتي كانَ لَها يشكرُ
سَأهجر الأَوطانَ لا كارِهاً … لكِن لِأَسبابٍ دَعَت أَهجُرُ
رِجالُها مَأجورَةٌ جلَّها … كَأَنَّها الآلَة تُستَأجرُ
في أَرض زَغلولٍ سَأُمسي غَداً … هَل يا تُرى يَصفو لي المعشَرُ
أَنا أَسيرٌ في بِلادي فَهل … في مِصر أَفكار الفَتى تُؤسَرُ
ما مصرُ إِلّا زَهرَةٌ في العُلى … وَالنَيلُ من برعمِها يقطُرُ
فَالحُرُّ فيها أَسدٌ رابِضٌ … إِذا دُعي لِلوَثبِ لا يَغدرُ
يحرسُها فِرعَونُ في قَبرِهِ … فِرعونُ حيٌّ فيهِ لا يُنكَرُ
العَنبَرُ الفَيّاحُ في تربِهِ … وَالمِسكُ في أَرجائِهِ أَذفُرُ
كَاللَيثِ إِذ يَزاَرُ في تَختِهِ … عَرينُهُ يعرفُه الأُقصُرُ
لبنانُ أَنآهُ وَلكِن لَهُ … ذكرٌ بِقَلبي المِسكُ وَالعَنبَرُ
عَسى أَراهُ مُرجِعاً مجدَه … لبنانُ فيهِ المِسكُ وَالعَنبَرُ