تَرامى اللَيلُ كَالهَمِّ الثَقيلِ … يَجُرُّ ذُيولَ مِعطَفهِ الطَويلِ
وَيُبرِزُ في مَشارِفهِ نُجوماً … بِلَونٍ بُرتُقالِيٍّ ضَئيلِ
وَكانَت زوق ميكائيل تُصغي … الى هَمسِ النَياسم في الحُقولِ
فَتَبسِمُ عَن كَواكِبها النَحيلَه … وَتَحلمُ في جَواذِبِها الجَميلَة
وَكانَت قُبَّةُ الجَرَس المُقيمَه … عَلى عَمَدَي كَنيسَتُها القَديمَه
تَقَطَّعُ في السَماءِ وَقد تَرامى … عَلَيها النورُ أَفلاذاً سَقيمَه
كَطَيفٍ يَخفر الأَمواتِ لَيلاً … وَيَبقى ساهِراً سَهَرَ الأُمومه
وَكانَ اللَيلُ مُنفَطِرَ الشُعورِ … أَحَسَّ لَهيبَ سُكّانِ القُبورِ
وَكانَت أَغصُنُ الدَوح القَديمِ … يَهزُّ رُؤوسَها مَرُّ النَسيمِ
فَيُسمَع في الدُجى مِنها حَفيفٌ … كَصَوتِ الوَخزِ في قَلبٍ أَثيمِ
وَفي الاِكواخِ أَقباسٌ ضِعافٌ … كَأَخيِلَةِ الكَواكِبِ في الأَديمِ
تُصَعِّدُ في نَوافِذها الصَغيرَه … زَفيراً من أَشعَّتها الحَقيرَه
وَفي الأَبعادِ كان يُرى الخَليجُ … تَمجُّ مِياهُهُ نوراً يَموجُ
كَلَوحٍ أَسوَدٍ مُلقىً عَلَيهِ … إِطارٌ فيهِ من ذَهَبٍ نَسيجُ
تُدبِّجهُ مَصابيحٌ وَزُهرٌ … لَها في الماءِ مَنظَرُها البَهيجُ
وَأَضواءُ النُجوم عَلى الشَواطِىءُ … إِذا اِمتَزَجَت بِأَضواءِ المرافىء
دَعِ الأَبعادَ في اللَيلِ الجَميلِ … تَنَم سَكرى مَعَ النورِ الضَئيلِ
وَخَلِّ أَنامِلَ النَسَماتِ تَلعَب … كَما شاءَت بِأَوراقِ الحُقولِ
وَدَع قَطرَ النَدى المَخمورَ يَسقُط … عَلى جَسَد الجَنائِنِ وَالطلولِ
وَهَيّا بي نَلِج قَصراً صَغيرا … تَرى المِصباحَ يَملاُوه شُعورا
فَتُبصِرَ إِن وَلَجتَ فَتىً كَئيبا … مِنَ الإِحساسِ يوشِكُ أَن يَذوبا
إِذا أَمعَنتَ فيه رَأَيتَ جِسماً … يَفور كَأَنَّ في دَمِهِ لَهيبا
لَهُ قَلبٌ يُرى في كُلِّ قَلبٍ … كَأَنَّ اللَهَ ذَرَّ بِهِ قُلوبا
فَتىً كَالفَجرِ أَلواناً وَعُمرا … إِذا أَبصَرتَه أَبصَرتَ فَجرا
وَإِن أَصغَيتَ تَسمَعُهُ يَقولُ … لِوالِدَةٍ أَلَمَّ بِها النُحولُ
لِأُمٍّ فارَقَت زوجاً حَبيباً … طَواهُ من الرَدى لَيلٌ ثَقيلُ
أُحِسُّ لَها اِضطِّراباً في فُؤادي … وَدَمعاً في حَناياهُ يَجولُ
وَما أَحسَستُ امسِ بِمِثلِ هذا … فَاِمسي كان لا ادري لِماذا
أَجل يا أُمِّ صِرتُ فَتىً شَقيّا … يَكادُ اليَأسُ يُطفىءُ مُقلَتَيّا
فَأَينَ مَضَت لَيالِيَّ الخَوالي … وَقَلبٌ كان في الماضي خَلِيّا
أَرى غَلواءَ تُعرِضُ عن هُيامي … وَيَكتُمُ قَلبُها سِرّاً خَفِيّا
وَتَسمَعُها تَقولُ لَهُ شَفيقُ … بُنَيَّ لَقَد أَضلَّتكَ الطَريقَ
جَميلٌ يا وَحيدي أَن تُحبّا … وَتَرفَعَ لِلهَوى عَيناً وَقَلبا
وَتَسمَعَ مِنهُ أَنغاماً عِذاباً … وَتَشرَب من يَدَيهِ الماءَ عَذباء
لَقَد أَحسَستُ قَبلَكَ بِاِضطِرابٍ … وَقاسَيتُ الهَوى سَهلا وَصَعبا
وَلكِن لَيسَ يَندَمُ مَن تَأَنّى … فَغلوا يا اِبنِ أَكبَرُ مِنكَ سِنّا
تَأَنَّ فَسَوفَ تَهوى مَن تُريدُ … وَتَهواكَ العَذارى وَالوُرودُ
فَمِثلُكَ لا يُجاوِرُهُ قُنوطٌ … وَمِلءُ شَبابِهِ عَقلٌ رَشيدُ
أَمامك يا اِبن أَعوامٌ طِوالٌ … وَمن زَهَرِ الهَوى عَدَدٌ عَديدُ
تَأَنَّ فَسَوفَ تَقطِفُ مِنهُ زَهرَه … تَكونُ أَشَدَّ من غَلواءَ نُضرَه
فَيُطلِقُ زَفرَةَ التَمِسِ الكَئيبِ … وَيَغرَقُ في دُجى فِكرٍ غَريبِ
وَيَذهَبُ لا يُجيبُ وَفي هَواهُ … لَظى شَكٍّ أَشَدُّ مِنَ اللَهيبِ
وَكَيفَ يُجيبُ أُمّا جَفَّ فيها … عُصارُ الحُبِّ في عَهد الغُروبِ
أَيا أُمي اِصرِفي ذي الكَأسَ عَنّي … فَما في الحُبِّ شَأنٌ لِلتَأَنّي
وَيَذهبُ لا يُجيبُ وَفي هَواهُ … من الاِشجانِ ما يُضني قِواهُ
دَعي يا أُمِّ زَهرَ الناسَ يَبسِم … وَيَنشَق في الوَرى غَيري شَذاهُ
فَلي في جَنَّةِ الاِشواكِ زَهرٌ … غَريبُ اللَونِ لا أَرضى سِواهُ