مَضَت أَشهُرٌ نُذِرَت لِلمَطَر … وأظلم فيها المسا وَالسَحَر
وَأَقبَلَ نُوّارُ عُرسُ الطَبيعَةِ … يَضحَكُ في وَرَقاتٍ الشَجَر
يُدَغدِغُ بِالطَلِّ عُشبَ الحُقولِ … وَيطبع أَلوانه في الزَهَر
وَيَبني عَلى الهَضَباتِ مَتاحِفَ … تَسخَرُ من هَذَيانِ البَشَر
كَأَنَّ عَباقِرَةَ الجِنِّ فيها … سَكَنَّ وَعَلَّقنَ تِلكَ الصُوَر
فَخَفَّ الشَبابُ نَدِيَّ الحَياةِ … يَستَقبِلُ الحُلُمَ المُنتَظَر
عَلى ثَغرِهِ بَسَماتُ الرَبيعِ … وَفي قَلبِهِ بَسَماتٌ أُخَر
وَفي يَومِ عيدٍ نقيِّ السَماءِ … كَأَنَّ السَما صَفحَةٌ من سُوَر
أُطلَّ شَفيقٌ عَلى الهَضَباتِ … فَراءَ الشَبابَ عَلَيها اِنتَشَر
وَأَبصَرَ غَلواءَ بَينَ الزُهورِ … كَحَوّاءَ بَينَ شَهيِّ الثَمَر
تُسَرِّحُ في عَدنِها نَظَراتٍ … عَرَفنَ أَزاهيرَ خَيرٍ وَشَر
وَقَد لَبِسَت ثَوبَها الزَنبَقِيَّ … عَلَيهِ نَسيجٌ بِلَونِ الخِضَر
وَأَلقَت عَلى العُشبِ جِسماً هَزيلاً … كَغُصنٍ من الياسمين اِنكَسَر
فَخَفَّ اِلَيها وَفيهِ عَذابٌ … بَدا مِنه في مُقلَيته أَثَر
وَقالَ لَقَد خَلَعَ الحَقلُ عَنهُ … رداءَ الشِتاء وَغطّى الحَجَر
وَأَلقى عَلَيه الرَبيعُ وِشاحاً … جَمالُ الطَبيعَةِ فيهِ انحَصَر
فَهلّا خَلَعتِ رداءَ اللَيالي … وَأَلبَستِ روحَكِ ثَوبَ البُكَر
وَهَلّا تَشَبَّهتِ بِالياسِمين … فَما كادَ يُحجبُ حَتّى ظَهَر
لَقَد غَسَلَت بَسَماتُ الزُهورِ … ذُنوبَ الشِتاء الكَفيفِ البَصَر
وَعادَ العَفافُ الى الهَضَباتِ … فَفي كُلِّ غَرسٍ فُؤادٌ غَفَر
فَقالَت أُحاوِلُ أَن أَتَناسى … زَماناً مَضى وَخَيالاً عَبَر
فَقالَ وَماذا يُمَثِّلُ هذا الخَيالُ … فَقالَت غَراماً عَثَر
فَقالَ وَقد جَحَظَت مُقلَتاهُ … وَهذا فَقالَت حَبيباً غَدَر
وَهذا الحَبيبُ غَفَرتُ لَهُ … وَيَعفو إِلهُك عَمّا بَدَر
غَفَرتُ كَما غَفَرت في الرَبيعِ … زُهورُ الرُبى لِشتاءٍ كَفَر
وَلكِنَّ بي نَدَماً كَاللَّهيبِ … يُريني الحَياةَ خِلافَ الشَرَر
وَكان النَسيمُ يَهزُّ الغُصونَ … فَتنشرُ في الجَوِّ عِطرَ الزُهور
وَلَمّا أَفقنَ اِعتَرَفنَ بِها … وَقد هَزَّهُنَّ الضَميرُ الطَهور
وَكان المَساءُ عَلى الهَضَباتِ … يَنفِثُ أَشباحَهُ في فُتور
وَشَمسُ المَغيب تُعيرُ الظِلالَ … أَلوانَها في مَطاوي الصُخور
فَقالَ شَفيقٌ وَفي قَلبه … رَجاءٌ يَموتُ وَحبٌّ يَثور
عَشِقتكِ يا غَلوَ عِشقاً نَما … شَقيَّ الرؤى في شَواطىءِ صُور
وَكنتِ من الداءِ في نَشوَةٍ … تُريكِ الحَياةَ ظَلاماً وَنور
جَهِلتِ الهَوى فَنَكَرتِ الرَبيعَ … وَقد تَنكُرينَ نُمُوَّ البُذور
وَمَن لَم يُقَدَّر له أَن يَشمَّ … يَنكر حَتّى أَريجَ العُطور
فَقالَت صَدَقتَ وَلكِنَّني … أُحِسُّ بِقَلبي جَفافَ الجُذور
فَأَنتَ تَرى في الرَبيع الجَمالَ … وَأُبصِرُ اَزهارَهُ كَالبُثور
وَتُبصِرُ في الزَهرِ لَونَ الحَياةِ … وَأُبصِرُ في الزَهرِ لَونَ القُبور