زَعَمَ الغُرَابُ مُنَبّىءُ الأنْبَاءِ، … أنّ الأحِبّةَ آذَنُوا بِتَنَاءِ
فاثلِجْ بِبَرْدِ الدّمعِ صَدراً وَاغراً، … وَجوَانِحاً مَسْجُورَةَ الرّمْضَاءِ
لا تَأمُرَنّي بالعَزَاءِ، وَقَدْ ترَى … أثَرَ الخَلِيطِ، ولاتَ حِينَ عَزَاءِ
قَصَرَ الفِرَاقُ عن السّلُوّ عَزِيمَتي، … وَأطالَ في تِلْكَ الرّسومِ بُكائي
زِدْني اشْتِياقاً بالمُدامِ، وَغَنّني، … أعْزِزْ عَليّ بِفُرْقَةِ القُرَنَاءِ
فَلَعَلّني ألْقى الرّدى، فَيُريحَني، … عَمّا قَلِيلٍ، منْ جَوى البُرَحاءِ
أخَذَتْ ظُهُورُ الصّالِحِيّةِ زِينَةً … عَجَباً مِنَ الصّفْرَاءِ والحَمْرَاء
نَسَجَ الرّبيعُ لِرَبْعِها دِيبَاجَةً، … مِنْ جَوْهَرِ الأنْوَارِ بالأنْوَاءِ
بَكَتِ السّماءُ بِها رَذَاذَ دُموعِها، … فَغَدَتْ تَبَسَّمُ عن نُجُومِ سَمَاءِ
في حُلّةٍ خَضْرَاءَ نَمْنَمَ وَشيَها … حَوْكُ الرّبِيعِ، وَحِلَةٍ صَفْرَاءِ
فاشْرَبْ على زَهرِ الرّياضِ يَشوبُهُ … زَهْرُ الخُدودِ، وَزَهرَةُ الصّهباءِ
مِنْ قَهْوَةٍ تُنْسي الهُومَ وَتبعَثُ الـ … ـشّوْقَ الّذي قدْ ضَلّ في الأحْشَاءِ
يُخْفي الزّجاجَةَ لَوْنُها، فَكَأنّهَا … في الكَفِّ قائِمَةٌ بغَيرِ إناءِ
وَلهَا نَسيمٌ كالرّياضِ، تنَفّسَتْ … في أوْجُهِ الأرْوَاحِ، وَالأنْداءِ
وَفَوَاقِعٌ مِثلُ الدّموعِ، ترَدّدَتْ … في صَحْنِ خَدّ الكاعِبِ الحسْناءَ
يَسْقِيكَها رَشَأٌ يَكادُ يرُدّهَا … سَكرَى بِفَتْرَةِ مُقْلَةٍ حَوْرَاءِ
يَسْعَى بها، وَبِمثِلِها مِنْ طَرْفِهِ، … عَوْداً وَأبْداءً على النُّدَماءِ
مَا للجَزِيرَةِ وَالشّآمِ تَبَدّلا، … بَعْدَ يابنِ يوسَفُ، ظُلْمةً بيضَاءِ
نضب الفُرَاتُ، وكان بحْراً زاخِراً، … وَاسْوَدّ وَجْهُ الرَّقّةِ البَيْضَاءِ
وَلَقَدْ تَرَى بأبي سَعِيدٍ مَرّةً … مَلْقَى الرّحالِ، وَمَوْسِمَ الشّعَرَاءِ
إذْ قَيْظُها مِثْلُ الرّبِيعِ، وَلَيْلُها … مِثْلُ النّهارِ، يُخالُ رَأدَ ضُحاءِ
رَحَل الأميرُ مُحمّدٌ، فَتَرَحّلَتْ … عَنهّا غَضَارَةُ هَذِهِ النّعْمَاءِ
وَالدّهْرُ ذُو دُولٍ، تَنَقَّلُ في الوَرَى … أيّامُهُنّ تَنَقُّلَ الأفْيَاءِ
إنّ الأمِيرَ مُحَمّداً لمُهَذَّبُ الْـ … ـإفْعَالِ في السّرَاءِ والضّرّاءِ
مَلِكٌ، إذا غشِيَ السّيوفَ بوَجْهِهِ، … غَشِيَ الحِمامُ بِأنْفُسِ الأعْدَاءِ
قُسِمَتْ يَداهُ بِبَأسِهِ وَسَمَاحِهِ … في نّاسِ، قِسْمَيْ شِدّةٍ وَرَخاءِ
مُلِئَتْ قُلوبُ العَالَمِينَ بفِعْلِهِ الْـ … ـمَحْمودِ مِنْ خَوْفٍ لَهُ وَرَجاءِ
أغْنى جماعَةَ طَيّءٍ عمّا ابْتَنَتْ … آباؤهَا القُدَمَاءُ لِلأبْنَاءِ
فَإذا هُمُ افْتَخَرُوا بِهِ لمْ يبَجحوا … بِقَديمِ مَا ودِثُوا منَ العَلْياءِ
صَعِدُوا جِبالاً مِنْ عُلاكَ، كأنّها … هَضَباتُ قُدْسَ، وَيذْبُلٍ، وَحرَاءِ
واستمطروُا في المحْلِ منكَ خَلائِقاً، … أصْفَى وَأعْذَبَ منْ زُلالِ الماءِ
وَضَمِنْتَ ثأرَ مُحَمّدٍ لهُمُ عَلى … كَلَب العدَى، وَتَخاذُل الأحْيَاءِ
ما انْفَكّ سَيْفُكَ غادِياً، أوْ رَائِحاً … في حَصْدِ هامَاتٍ، وَسفْكِ دماءِ
حَتّى كفيتَهُمُ الذي استكْفَوْكَ مِنْ … أمْرِ العِدَى، وَوَفَيْتَ أيّ وَفاءِ
ما زلْتَ تَقْرَعُ بابَ بابَكَ بالقَنَا، … وَتَزُورُهُ في غَارَةٍ شَعْوَاءِ
حَتى أخذْتَ بنصْلِ سيْفكَ عَنوَةً، … مِنْهُ الّذي أعْيا عَلى الحلفاء
أخْلَيْتَ مِنْهُ البَذّ، وَهيَ قَرَارُهُ، … وَنَصَبْتَهُ عَلَماً بِسامِرَاءِ
لمْ يُبْقِ منهُ خَوْفُ بَأسِكَ مَطَعماً … للطّيْرِ في عَوْدٍ، وَلا إبْدَاءِ
فَتَرَاهُ مُطَّرِداً عَلى أعوَادِهِ، … مِثْلَ اطّرَادِ كَواكبِ الجَوْزَاءِ
مُسْتَشْرِفاً للشمسِ، مُنْتصِباً لهَا، … في أُخْرَياتِ الجِذْعِ كالحِرْباءِ
وَوَصَلْتَ أرْضَ الرّومِ وَصْلَ كُثَيّرٍ … أطْلالَ عَزّةَ، في لِوَى تَيْماءِ
في كُلّ يَوْمٍ قَدْ نَتَجْتَ مَنِيّةً … لِحُماتِها، مِنْ حَرْبِكَ العُشَرَاءِ
سَهّلْتَ مِنها وَعْرَ كُلّ حُزُونَةٍ، … وَمَلأتَ مِنْها عَرْضَ كلّ فضَاءِ
بالخَيل تحمِلُ كلَّ أشعثَ دارِعٍ، … وَتُوَاصِلُ الإدْلاجَ بالإسْرَاءِ
وَعَصَائِبٍ يَتَهافتُونَ، إذا ارْتَمَى … بهِمِ الوَغَى في غَمْرَةِ الهَيْجاءِ
مِثْلَ اليَرَاعِ بَدَتْ لهُ … لَفّتْهُ ظُلْمَةُ لَيْلَةٍ لَيْلاءِ
يَمْشُونَ في زَغَفٍ، كأنّ مُتونَها، … في كُلّ مَعْرَكَةٍ، مُتونُ نِهاءِ
بِيضٌ تَسيلُ، على الكُماةِ، فُضُولُها … سَيْلَ السّرَابِ بِقَفْرَةٍ بيْداءِ
فإذا الأسِنّةُ خَالَطَتْها خِلْتَها … فِيهَا خَيَالُ كَوَاكبٍ في ماءِ
أبْنَاءُ مَوْتٍ يَطْرَقونَ نُفوسَهُمْ … تحْتَ المَنَايًّا، كُلَّ يوْمِ لِقَاءِ
في عارِضِ يَدِقُ الرّدَى ألهَبْتَهُ … بِصَوَاعِقِ العَزَمَاتِ وَالآرَاءِ
أشلى على منوِيلَ أطرَافَ القنا، … فنجا عتيقَ عتيقَةٍ جَرْداءِ
وَلَوَ أنّهُ أبْطَأ لَهُنّ، هُنيهّةً، … لَصَدَرْنَ عنْهُ، وَهُنّ غَيرُ ظِماءِ
فَلَئِنْ تَبقَاهُ القَضَاءُ لوَقْتِهِ … فَلَقَدْ عَمَمْتَ جُنودَهُ بِفَناءِ
أثْكَلْتَهُ أشْياعَهُ، وَتَرَكْتَهُ … لِلْموْتِ مُرْتَقِباً صَباحَ مَسَاءِ
حَتّى لَوِ ارْتَشَفَ الحديدَ، أذابَهُ … بالْوَقْدِ مِنْ أنْفاسِهِ الصُّعَدَاءِ