أظُنُّ الدَّهْرَ جاءَكَ مُستَثيراً … فقد أحقدتَهُ كرماً وخِيرا
تَبِيتُ على نوائبِهِ مُعيناً … وتُضْحِي مِنْ حوادِثهِ مُجِيرا
وتَصْرِفُ صرْفَهُ عنْ كُلِّ حُرٍّ … وتمنَعُ خطبَهُ منْ أنْ يَجُورا
فكمْ أنقذْتَ منْ تلفٍ أخيذاً … وكمْ أطلقْتَ منْ عُدْمٍ أسيرا
فلا عجبٌ وإنْ وافى بأوْفى الـ … ـفوادِحِ أن يسُوءَ وأنْ يسُورا
وهلْ قصدَ الزَّمانُ سِوى كَرِيمٍ … حماهُ أنْ يضيمَ وأنْ يضِيرا
وما زالتْ صُروفُ الدهْرِ تحدُو … إلى الأخيارِ شرّاً مُسْتَطِيراً
تُسيءُ إلى ذَوِي الحُسنى وتحْبُو … مُقِيلَ عِثارِها الجَدَّ العَثُورا
… رَعى ذا المَجْدَ والشَّرَفَ الخَطِيرا
ولوْ دُفِعَ الحِمامُ بِعَزِّ قومٍ … لكُنْتَ أعَزَّ ذِي عِزٍّ نَصيرا
هُوَ القدَرُ الَّذِي لمْ تَلْقَ خَلْقاً … على دَفْعٍ لَهُ أبَداً قَدِيرا
سواءٌ منْ يقودُ إليهِ جيشاً … وَمَنْ يَحْدُو مِنَ الأقوامِ عِيرا
ومَا ينَفَكُّ هذا الدَّهْرُ حتّى … يصيرَ إلى الفناءِ بِنا المصيرا
فَيالِيَ مِنهُ صَوّالاً فتُوكا … ويالِيَ مِنهُ خلاّباً سَحُورا
كذلكَ شيمة ُ الأيامِ فينا … تسُوءُ حقيقة ً وتسُرُّ زُورا
وكَمْ سُكّانِ دُنْياً لَوْ أفاقُوا … لما سكنتْ قلوبُهُم الصدورا
أهبَّ عليهِمُ الحدثانُ ريحاً … بكلِّ عجاجة ٍ تُغْري مُثِيرا
تحدّاهُمْ كأنَّ عليهِ فيهِمْ … يميناً أوْ قضى بهمُ النُّذورا
فيا عَيْشا مُنْحْناهُ خِداعاً … ويا دُنْيا صَحِبْناها غُرُورا
ويا دَهْراً أهابَ بِنا رَداهُ … ليتْبِعَ أولاً منّا أخِيرا
أما تنصدُّ ويحَكَ عنْ فَعالٍ … ذَمِيمٍ لا تَرى فِيهِ عَذِيرا
سموتَ إلى سماءِ الفخْرِ حتّى … تَناوَلْتَ الهِلالَ المُسْتَنِيرا
وطُفْتَ بِدوْحَة ِ العَلْياءِ حَتّى … خَلَسْتَ بِكَيْدِكَ الغُصْنَ النَّضِيرا
كأنَّ أبا الغنائِمِ كانَ ممنْ … تَعُدُّ وفاتَهُ غُنْماً كبيرا
كأنَّكَ كُنْتَ تَطْلُبهُ بِثأرٍ … غَشومٍ لا تَرى عَنهُ قُصُورا
خَطَوْتَ العالَمِينَ إليهِ قَصْداً … كأنَّكَ قدْ سألْتَ بهِ خبيرا
إلى أنْ أغمدَتْ كفّاكَ منهُ … حُساماً زانَ حامِلَهُ شَهِيرا
مُصابٌ لَوْ تَحمَّلهُ ثَبِيرٌ … دَعا وَيْلاً وأتْبَعَها ثُبُورا
يُذَكِّرُنِي سَدِيدَ المُلْكِ وَجْداً … وكُنْتِ لِمثِلهِ أبَداً ذَكُورا
فَما أطفْأتَ مِنْ نارٍ لَهِيباً … إلى أنْ عُدْتَ تُذْكِيها سعيرا
وما طالَ المدى فيسُوغَ عُذْرٌ … بأنْ يكْبُو الجوادُ وأنْ يَخُورا
قَصَرْتَ مَداهُ حتّى كادَ يوْماً … بهِ أنْ يَسبِقُ النّاعِي البَشِيرا
ولمْ يكْسُ الفتى كمداً طويلاً … كمفقُودٍ نضى عُمْراً قصِيرا
ولمْ أجِدِ الكَبِيرَ الرُّزْءِ إلاّ … سَلِيلَ عُلاً فُجِعْتَ بهِ صَغِيرا
على أنَّ الكِرامَ تُعدُّ ليثاً … هصُوراً منهُمُ الرشَأَ الغريرا
ترى أيامهُمْ أعوامَ قومٍ … وَساعاتِ الفَتى مِنهُمْ شُهُورا
فَلا يَبْعُدْ حَبيبٌ بانَ عَنّا … وإنْ كانَ البعادُ بهِ جَدِيرا
وكيفَ دُنُوُّ منْ طوَتِ الليالِي … كَما تَطْوِي عَلى الظَّنِّ الضَّمِيرا
فيا رامِيهِ عنْ قوسِ المنايا … أصَبْتَ بواحدٍ عدداً كَثِيرا
ويا راجِيهِ يَجْعَلُهُ ظَهيراً … نَبا بكَ حادِثٌ قطَعَ الظُّهُورا
ويا حاثِيَ الترابِ عليهِ مهلاً … كَسفْتَ بَهاءَهُ ذاكَ البَهيرا
فلو أنِّي استطعتُ حملْتُ عنْهُ … ثقيلَ الترْبِ والخطْبَ الكَبيرا
أصُونُ جمالَهُ وأجِلُّ منْهُ … جَبِينَ البَدْرِ أنْ يُمْسِي عَفِيرا
بِنَفْسِي نازِحٌ بِالغَيْبِ دانٍ … يُجاوِرُ مَعْشراً حُضُورا
أقامَ بِحَيْثُ لا يهْوى مُقاماً … ولاَ يَبْغِي إلى جِهة ٍ مَسِيرا
ولا هَجْراً يَوَدُّ وَلا وِصالاً … ولا بَرْداً يُحِسُّ ولا هَجِيرا
أقُولُ سقى محلَّتَهُ غمامٌ … يَمُرُّ بِها مِراراً لا مُرُورا
وروَّضَ ساحتيهِ كأنَّ وشياً … يَحُلُّ بِها وَدِيباجاً نَشِيرا
إذا خطَرَ النسيمُ عليهِ أهْدى … إلى زُوارِهِ أرَجاً عطِيرا
وما أرَبِي لَهُ في ماءِ مُزْنٍ … وقدْ ودَّعْتُ منْهُ حيّاً مطيرا
ولَوْلا عادَة ُ السُّقْيا بِغَيْثٍ … إذاً لسقيتُهُ الدرَّ النثِيرا
وقلَّ لقدرِهِ منِّي وقلَّتْ … لَهُ زُهْرُ الكواكِبِ أنْ تَغُورا
أحِنُّ إلى الصَّعيدِ كأنَّ فيهِ … شِفاي إذا مَرَرْتُ بهِ حَسِيرا
وأستافُ الثَّرى مَذْ حَلَّ فِيهِ … وأُلْصِقُهُ الترائبَ والنُّحُورا
ولَوْلا قَبْرُهُ ما كُنْتُ يَوْماً … لألْثِمَهُ وأعْتَنِقَ القُبُورا
عليكَ بأدْمُعٍ آلينَ ألاّ … يغِضْنَ ولوْ أفضْنَ دماً غزيرا
يزُرنكَ مُسعِداتٍ مُنجداتٍ … رواحاً بالتفجُّعِ أوْ بُكورا
فأولى مَنْ يُقاسِمُكَ الأسى فِي … خطوبِكَ منْ تُقاسِمُهُ السرورا
ولا تعلقْ بصبرٍ بعدَ بدْرٍ … ذَمَمْنا الصَّبْرَ عَنهُ والصَّبُورا
وإنْ قالُوا استرَدَّ الدَّهْرُ مِنهُ … مُعاراً كيْفَ تَمْنَعُهُ المُعِيرا
فَلِمْ أعْطاكَهُ نَجْماً خَفِيّاً … وعادَ لأخْذهِ قَمَراً مُنِيرا
أبا الذوادِ ما كبدٌ أُذِيبَتْ … بِشافِيَة ٍ وَلا قَلْبٌ أُطِيرا
فهلْ لكَ أنْ تُراقِبَ فيهِ يوماً … يُوَفّى الصّابِرُونَ بهِ الأُجورا
ولوْلاَ أنْ أخافَ اللَّهَ مِنْ أنْ … يرانِي بعدَ إيمانٍ كَفُورا
لَما عَزَّيْتُ قَلْبَكَ عَنْ حَبِيبٍ … وكُنْتُ بِأنْ أُحَرِّقَهُ بَصِيرا
ولمْ نعهدكَ في سرّاءِ حالٍ … ولا ضَرّائِها إلاّ شَكُورا
فصَبْراً للمُلِمِّ وإنْ أصَبْنا … جَناحَ الصَّبْرِ مُنهاضاً كَسِيرا
ألمْ تعلمْ وكانَ أبُوكَ ممنْ … إذا خطَبَ العُلى أغْلى المُهُورا
بأنكُمُ أطَبُّ بكُلِّ أمْرٍ … إذا ما ضيعَ الناسُ الأمُورا
وأيُّ الخطْبِ ينقُصُ منْ عُلاكُمْ … وأيُّ النزفِ ينتزِحُ البُحُورا
وأيُّ عَواصِفِ الأرْواحِ يَوْماً … تَهُبُّ فَتُفْلِقُ الطَّوْدَ الوَقُورا
وإنكَ شائدٌ وأخُوكَ مجداً … سيخلُدُ ذكرُهُ حسناً أثِيرا
إذا وُقِّيتُما مِنْ كُلِّ خَطْبٍ … فَما نَبْغِي عَلى زَمَنٍ ظَهِيرا
وما القَمَرانِ إذْ سَعِدا وَتَمّا … بأبْهَرَ منكُما في الفَضْلِ نُورا
أرانِي لا أسُومُ الصَّبْرَ قَلْبِي … فأُدْرِكَهُ يَسِيراً أوْ عَسِيرا
كأنِّي مُبتَغِ لَكُما شَبيهاً … بهِ أوْ مُدَّعٍ لَكُما نَظِيرا
فلا أخلى الزمانُ لكُمْ محلاً … وَلا عَدِمَتْ سَماؤُكُمُ البُدُورا